بسم الله الرحمن الرحيم
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)كَلاّ إِنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)كَلاّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)كَلاّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19).
الباب الأول
وجوب الاهتمام بالعلم الشرعي
سورة العلق سورة مكية (96/مصحف، 1/نزول) وتسمى سورة اقرأ ، قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنها وأمثالها من السور التي فيها العجائب، وذلك لما جاء فيها من التأسيس لافتتاحية تلك الرسالة العظيمة، ولا تستطيع إيفاءها حقها عجزاً وقصوراً".
فالآيات الخمس الأولى منها هي بحق كما قال الشنقيطي افتتاحية الوحي ، لذلك كانت موضع عناية المفسرين وغيرهم.إن أجل العلوم التي يدعو القرآن إلى اكتسابها علوم الدين، لأنها تهدي الإنسان إلى سبيل سعادته في الدارين، فكان أول الذي نزل من قوله تعالى اقرأ ففي الصحيحين واللفظ للبخاري، وغيرهما، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ـ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَه الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ اْلأكْرَمُ ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ..الحديث.
فقوله تعالى (اقرأ) نبه بها على أعلى أسباب القرب إليه وهو العلم. و(اقرأ) بدء للنبوة وإشعار بالرسالة، لأنه يقرأ كلام غيره، وفيها إبراز للمعجزة أكثر، لأن الأمي بالأمس صار معلماً اليوم."إن مما يبين أهمية وفضل العلم والتعليم، نزول أول آيات من القرآن الكريم فيها حض على القراءة والأمر بها، بل وكرر الأمر فيها بالقراءة تنبيها على التزام أقوى أسباب السعادة.(1)
وجاء في السورة تكرير الأمر بالقراءة للإشعار بحاجة الإنسان لمتابعة القراءة في حياته، ثم ذكر القلم إبرازا لمكانته وأهميته في حفظ العلم وتبليغه، قال العلامة السنوسي - رحمه الله - نقلا عن بعض الشيوخ: ( مقصد السورة والله أعلم، إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى اصطفاه بأن جعله إنسانا أولاً، وفضَّله على بني جنسه من المصطفين وغيرهم بما خصه به من العلوم والمعارف الموجبة منزلة القرب، وأنه خلقه للانقطاع لعبادته، وضمن له ما يهمه من أمر عدّوه، فقيل له في فاتحتها (اقرأ) فنبه على أعلى أسباب القرب وهو العلم، وحض في خاتمتها على نتيجة العلم وهو العلم المقرّب إليه جل وعلا، فقيل له ( اسجد واقترب) وحاصله إعلم واعمل.(2)أ.هـ
وقال تعالى في السورة (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)، قال الزجاج: أي علم الإنسان الخط بالقلم. وقال ابن كثير: وفي الأثر: قيدوا العلم بالكتابة.
فدل على كمال كرمه، بأنه علم عباده ما لم يعلموا. ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ولا كتب الله المنزلة، إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به.
وقال تعالى في سورة المائدة: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ...(110).فقوله تعالى: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ) أي: الخط الذي هو مبدأ العلم.
وقد ذكر القلم في السنة أنواعا متفاوتة، وكلها بالغة الأهمية:
منها: أولها وأعلاها: القلم الذي كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة، والوارد في الحديث: (إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون).
ثانيها: القلم الذي يكتب به الملك في الرحم ما يخص العبد من رزق وعمل، والوارد في الحديث: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟، شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟، فَمَا الرِّزْقُ وَالأجَلُ؟ فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ).
ثالثها: القلم الذي بأيدي الكرام الكاتبين كما في قوله تعالى في سورة الانفطار: (كِرَامًا كَاتِبِينَ(11).
رابعها: القلم الذي بأيدي الناس يكتبون به ما يعلمهم الله، ومن أهمها أقلام كتّاب الوحي، الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتابة سليمان إلى ملكة سبأ.(1)
وقال الشنقيطي: وقوله تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) شامل لهذا كله، إذا كان هذا كله شأن القلم وعظم أمره، وعظيم المنّة به على الأمة، بلى وعلى الخليقة كلها.
الأمر بكتابة العلم
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة العلم، صح ذلك من حديث أنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن العباس: ( قيّدوا العلم بالكتاب )(2) وعن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضى! فأمسكت عن الكتاب وذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: (اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلا حَقٌّ).طلاب العلم الشرعي
ولأن المطلوب عبادة الله تعالى على الوجه الذي بين وأمر، فقد حث الله تعالى على العلم النافع، وحث على تدوينه، والعلم النافع هو ما قاله الله تعالى وما قاله نبيه صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم بين لصحابته الذي نزل عليه ، كما بين الصحابة رضوان الله عنهم ما فهموه من النبي صلى الله عليه وسلم فتناقلوه بينهم ومن ثم جرى تدوينه.
إن على طالب العلم أن يدرك أنه ييجب عليه أن يقرأ رسالة الله تعالى المرسلة إليه، وعليه أن يعتني باستمرار بمطالعتها وفهمها حتى يزيده الله تعالى هداية وفهما ( اقرأ باسم ربك الذي خلق.. اقرأ وربك الأكرم ) وإذا كان الله تعالى قد خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم أولا فهو خطاب لكل أحد ، والنبي صلى الله عليه وسلم أول من سمع هذا الخطاب ، ففيه حث الناس على القراءة والعلم النافع ، العلم الذي تضمنته رسالته عز وجل فهم مأمورون بقراءة رسالته لأنه سبحانه وتعالى أعلم منهم وأدرى بضعفهم فهو من رحمته عز وجل لم يخلقهم عبثا بل دلهم على صلاح شؤونهم ونظام حياتهم ، وهو بذلك يبين لهم السلوك الأمثل والأقوم والأصلح والأنفع لحياتهم في الدارين، ولا يتركهم لعقولهم وآرائهم واستنباطاتهم التي كثيراً ما تضل عن معرفة الحق إذا تركت مستقلة دون الرجوع إلى ما شرعه وأوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
عِلْمُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في الصحيحين: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لأرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الْعِلْمَ.وفي رواية: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ شَرِبْتُ ـ يَعْنِي اللَّبَنَ ـ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى الرِّيِّ يَجْرِي فِي ظُفُرِي ـ أَوْ فِي أَظْفَارِي ـ ثُمَّ نَاوَلْتُ عُمَرَ فَقَالُوا فَمَا أَوَّلْتَهُ قَالَ الْعِلْمَ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وكون محمد صلى الله عليه وسلم كان نبياً أمياً هو من تمام كون ما أتى به معجزاً خارقاً للعادة، ومن تمام بيان أن تعليمه أعظم من كل تعليم، كما قال تعالى في سورة العنكبوت: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(48)
فضل العلم والعلماء
قال ابن أبي جمرة فيما نقله ابن حجر في الفتح (12/394): وفيه أن علم النبي صلى الله عليه وسلم بالله لا يبلغ أحد درجته فيه، لأنه شرب حتى رأى الرِّيَّ يخرج من أطرافه، وأما إعطاؤه فضله عمر ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله بحيث كان لا يأخذه في الله لومة لائم.
وقال: وفيه أن من الرؤيا ما يدل على الماضي والحال والمستقبل، قال: وهذه أولت على الماضي، فإن رؤياه هذه تمثيل بأمر قد وقع، لأن الذي أعطيه من العلم كان قد حصل له، وكذلك أعطيه عمر، فكانت فائدة هذه الرؤيا تعريف قدر النسبة بين ما أعطيه من العلم وما أعطيه عمر.أ.هـ
إن هذا الحديث يبين فضل العلم والعلماء، وذلك بتشبيه العلم باللبن، وأن من أخذ العلم فكأنما هو يشرب اللبن وذلك لكونهما مشتركين في كثرة النفع بهما، وفي أنهما سببا الصلاح، فاللبن غذاء الأبدان، والعلم غذاء العقول وسبب الصلاح في الدنيا والآخرة(1).
وأيضا مما يبين فضل العلم والعلماء ( أن فضلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضيلة وشرف، وقد فسرها بالعلم، فدل على فضيلة العلم والعلماء)(2)، وذلك لأن الآخذ منه آخذ من فضلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ينبغي أن يعلم أن تحقيق التوحيد يستحيل أن يتم كله أو شيء منه إلا بالعلم. لأن العبادة، أية عبادة لا تصح إلا باجتماع شرطين:
الأول: إخلاص النية فيها لله عز وجل، بحيث لا يقصد بها إلا وجهه سبحانه.
الثاني: متابعة الشرع فيها وفق ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة أو نقصان. وهذا لا يتم إلا من ذي علم.
وهكذا فإن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً لم يقبل. وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل. فلا يقبل حتى يكون خالصاً وصواباً. والخالص أن يكون لله تعالى، والصواب أن يكون على السنة.
إن الإخلاص وإن كان أساس كل شيء، إلا أنه ليس كل شيء. إذ لا بد أن يضاف إليه العلم، وإلا انعكس سير العبد إلى الخلف أو ظل مكانه.